مما لا شك فيه أن التوجيه التربوي والمهني شأن مؤرق لاسيما لفاعلين أسين مفترضين في منظومة التربية والتكوين ألا وهما المتعلمات والمتعلمين وأسرهم، ويزدادون أرقا حينما لا يستقرون على قرارات دراسية أو تكوينية أو مهنية معينة أو يخفقون في تلك القرارات مما يتحتم السعي للتصحيح والمراجعة عبر اللجوء لعملية إعادة التوجيه. وإن كانت النتائج العددية لمجالس إعادة التوجيه لا توحي باحتدام الظاهرة في كافة عتبات التوجيه فإن من الجدير بالإشارة إلى التزايد الملفت لأعداد تلميذات وتلاميذ مستوى السنة الثانية بكالوريا مسلكي العلوم الرياضية -أ- و-ب- الذين يتقدمون بطلبات تغيير التوجيه إلى مسالك مستوى السنة الختامية بكالوريا علوم تجريبية إذ أكثر من خمسي الموجهات والموجهين إلى تخصصي علوم رياضية -أ- و-ب- برسم الموسم الدراسي 2013/2014 بنيابة أكادير-إداوتنان لجئوا لعملية تغيير التوجيه، ورصد على المستوى الوطني قيام أكثر من 40 % من متمدرسات ومتمدرسي مستوى السنة الثانية بكالوريا علوم رياضية بتغيير التوجيه إلى مسالك السنة الثانية بكالوريا علوم تجريبية برسم نفس الموسم؛ ومع الحجم الملفت لطلبات أولئك لمراجعة قرارات مجالس التوجيه أنجز مفتشا التوجيه التربوي الهاشمي كبدة ومحمد شفيق بحثا استكشافيا وذلك رغبة في الإحاطة ببعض من العوامل الخلفية لهذه الظاهرة، وقد توخي منه، نظريا الإمتاح من بعض أدبيات التوجيه وإعادة التوجيه لاسيما المقاربات والإشكالات والرهانات والبنيات والمساطر، والوقوف على الأجرأة التنظيمية للتخصص الدراسي العلوم الرياضية أهدافا ومواصفات وتقويما، وميدانيا رصد بعض سياقات ودواعي مطالبة متعلمات ومتعلمي مستوى السنة النهائية بكالوريا علوم رياضية بإعادة النظر في اختياراتهم الدراسية؛ وبالنظر لراهنية موضوع إعادة التوجيه في بدية كل موسم دراسي أرتئ منجزا البحث تقاسمه مع القراء في حلقات.
الحلقة الثانية: أنساق مفاهيمية للتوجيه التربوي
1 ـ تعاريف ومفاهيم
تتعدد وتتنوع تعاريف ومفاهيم التوجيه التربوي بتعدد وتنوع المنطلقات الفكرية والهيئات المهتمة والأطروحات النظرية والمساطر الإجرائية … فلغويا يكمن في إعطاء اتجاه معين(2). وهو موظف بهذا المعنى في العديد من الأنظمة التعليمية. ومعجميا يعرف كعملية سيكو-بيداغوجية ترمي إلى اختيار المتعلم للأنشطة والدراسة التي تعكس تلبية حاجاته والاستجابة لانتظاراته وحوافزه والتوافق مع ميولاته، وتعبر عن مؤهلاته واستعداداته(3)، كما يوصف بكونه خدمة تحقق إشباع الميل الدراسي أو التكويني أو المهني للفرد، وبالتالي الشعور بالرضى على وجوده وكينونته، بالموازاة مع اضطلاعه (أي التوجيه التربوي) برسالة مجتمعية تناظم المواءمة بين مطالب الشخص ومتطلبات المجتمع المتأتية في النسيج الإنتاجي عبر المردودية والخلق والعطاء(4). وهيئويا يتناول باعتباره يسهل التفتح والرقي التامين لشخصية المواطن بكل تجلياتها وذلك بحثا عن نمط من التعليم، وفي النهاية عن المهنة الأكثر ملائمة لقدراته والتي تضمن له أفضل مستقبل مادي وروحي وتمنحه مكانة حيث يكون أكثرا نفعا للمجتمع.
وعليه، ففي سياق التربية والتكوين طيلة الحياة، يرتبط التوجيه التربوي بسلسلة من العمليات التي تمكن هذا المواطن، في أي سن أو لحظة من وجوده، من تحديد كفاءاته واهتماماته واتخاذ قرارات في موضوع التربية والتكوين والتشغيل، وتدبير مسارات كينونته الشخصية في التعليم والتأهيل والعمل وفي إطارات أخرى حيث فرصة استثمار خاصياته تلك(5).
وفي الوقت الراهن ينشغل التوجيه التربوي بالنماء المهني الشخصي للفرد آخذا بعين الاعتبار كل انعكاساته، أي كل التأثيرات الضابطة له. وهكذا يتصور سيرورة للنمو المتواصل للشخص في تماس جدلي مع تقلبات سوق الشغل حيث هشاشة التشغيل، والتسريحات الجماعية وإعادة هيكلة المقاولات وما يتولد عن ذلك من حجم وتنوع إشكالات الاختيار المهني وتحولات الحياة العملية بكل تمظهراتها. ويبقى إيجاد أجوبة لهذه الإشكالات من الرهانات الرئيسية التي يتحتم على المجتمع ربحها(6).
وفي ظل التغيير المتسارع لتقنيات التربية المستدامة، والنمو المطرد لوسائل الإعلام والاستعلام والاستغلال الفعال للموارد، يقارب التوجيه التربوي كمنظومة غايتها جعل المتعلم قادرا على الوعي بمميزاته الشخصية وتنميتها بهدف اختياره لدراسة وأنشطة مهنية تحت كل الظرفيات المسايقة لبيئة عيشه مع مراعاة تنمية مجتمعه وتفتح شخصيته. ويتأتى هذا بالإنصات المتأني للمتعلم، وإبداء الفهم والاحترام والود إزاءه، وتوضيح أهدافه ومساعدته على التعاطي الإيجابي مع سيرورة اتخاذ القرار، مع ما يقتضيه ذلك من إرساء علاقة تعاون ديناميكية، بين المستشير والمستشار، متمحورة حول جلاء الانتظارات وسبل تحقيقها على أن يدعم المستجوب لدى المستجوب التقييم الذاتي وفهم مختلف الخيارات السلوكية وما تتيحه من إمكانات اتخاذ القرار في كامل الوعي والمسؤولية(7).
ويتبنى التوجيه مكونا لا محيد عنه من سيرورة التربية والتكوين تناط به وظيفة المواكبة وتيسير نضج المتعلمين وميولهم وملكاتهم واختياراتهم التربوية والمهنية، وإعادة توجيههم كلما دعت الضرورة إلى ذلك(8).
2 ـ تيارات
أما التيارات النظرية المقاربة للتوجيه التربوي والمهني فإنها تتباين في طرحها لمفهوم هذا الأخير بتباين المرجعيات المؤسسة لها، وتسايقه بالإطار العام للتحولات التربوية والعلمية والسوسيو-اقتصادية المؤطرة للنسق الفعلي للتربية والتكوين.
وهكذا فالتيار السيكو-متري، لرائده F, Parsons(a)، الممتح من علم النفس الفارقي، يمحور التوجيه على الاختيار المهني حيث الاختيار الحكيم لمهنة ما يكمن في تقاطع ثلاث عوامل كبرى: الفهم الجلي للذات واستيعاب المتطلبات والاستدلال الدقيق حول العلاقة القائمة بين العاملين الأول والثاني، أي بعبارة أوضح التوجيه هو السعي لأقصى تلاؤم بين الفرد والمهنة من خلال الكشف عن التناظر بين الخصائص الفردية من استعدادات وقدرات مع المواصفات المميزة للمهنة وشروط ممارستها والمتأتي عبر استثمار نتائج الأدوات السيكو-مترية وحواصل أدوات التحليل المهني(9).
ويولي التيار السلوكي، من بين منظريهKrumboltz J,(b)، أهمية للقوانين السلوكية المفسرة لعملية الاختيار أكثر منه للنتائج المرصودة، إذ يركز على دراسة التأثيرات، التي توسع أو تحد من مدى الاختيارات المتاحة للفرد، والمجملة في متغير الجنس والموهبة، ووقع الاقتصاد والتربية، ومكتسبات التعلم الذاتي والجمعوي وبالإنابة، وتأثير السيرورة المعرفية ومرامي الأداء. فبتحليل وتركيب هذه التأثيرات تبلور وتصاغ قوانين سلوكية كفيلة بمعالجة المشاكل الناجمة عن الاختيار المهني الذي ليس في حد ذاته، بالإضافة إلى أهداف وقيم الفرد وعاداته في العمل، إلا ثمرة التفاعل الناجم عن العوامل الوراثية والشروط المرتبطة بالمحيط وتجارب التعلم والكفايات المرتبطة بالمهام(10).
ويستقرأ التيار الإنسانوي، رافد التوجه الفلسفي الفينومينولوجي المقارب لمنهج الإدراك والتجربة الواقعية لدى الشخص، الاختيار في سياق القوى الداخلية الذاتية للكائن البشري، وهذا وفق نظرة تفاؤلية لعمق طبيعة الفرد. ويمفصل هذا التيار قضية اتخاذ القرار في خمسة مبادئ كبرى: المسؤولية الشخصية
وما تقتضيه من الحرية على الإقدام على خيارات مطروحة على الشخص في معيشه اليومي أي بمنظور أن الإنسان حر وله سلطة على حياته، هنا والآن بمعنى امتلاك السلطة على الحاضر فقط وعيش الماضي والمستقبل في الزمن الآني أي الشخص ليس ضحية ماضيه بل له القدرة على الاختيار في التصرف فيه، فينومينولوجيا الفرد حيث إيلاء الأهمية للتجربة الداخلية والذاتية والشخصية لاسيما وأن لكل شخص رؤيته الخاصة وتأويله الخاص للأحداث التي تصادفه طيلة وجوده، النماء الشخصي وهو عنصر مفتاح يرمي للإقرار بتمتع الفرد بفرص التنشئة وإمكانات التطور، الإنسان بطبعه طيب فلا أحكام قيمة عليه وكل فرد يحوي في كينونته الذاتية العميقة سمات الطيبوبة والإيجابية(11). وعليه فاختيار دراسة أو مهنة محكوم بدلالة فهم الذات ودرجة التمثل الإيجابي لصورتها أي رهن اختيار مسلك دراسي أو مسار مهني بحصول الانسجام والتناغم بين الاستيعاب لعمق الخصائص الفردية ومعرفة وفهم متطلبات وأنشطة هذا المسلك أو المسار(12).
3 ـ مقاربات
للانتقال بالاختيار الدراسي والمهني من اعتماد الاعتباطية والصدفة والتخمين إلى إكسابه الطابع العلمي، نال التوجيه المدرسي والمهني اهتمام عدة باحثين، وكان هذا الحقل التربوي موضوع دراسات وتجارب ميدانية أجابت عن أسئلة مطروحة وأثبتت فرضيات؛ وهكذا نشأت مقاربات نظرية تقرأ عملية التوجيه التربوي في أبعادها ومؤشراتها المختلفة، وتحلل كل المتغيرات المفسرة لهذه السيرورة المعقدة والمتعين استيعاب معظم مكوناتها بهدف مواكبة الفرد في اختياراته الدراسية والمهنية بما يراعي توافق ميولاته واهتماماته مع استعداداته وكفاياته الفكرية والبدنية.
وتصنف النظريات المقاربة للتوجيه المدرسي والمهني إلى طرحين: تيار يؤسس لاتخاذ القرار بشان دراسة أو مهنة من زاوية العوامل الخارجية إذ ينسب ظاهرة الاختيار إلى تدخل نسق خارجي عن الفرد، وآخر يمتح من علم النفس ويمحور الاختيار على العوامل الداخلية للفرد(13).
أ) ـ الطرح الأول
من كتابات الطرح الأول نظرية الاختيار الدراسي والمهني المؤسسة على العوامل الاقتصادية حيث إلى جانب قانون العرض والطلب تنضاف عوامل أخرى اقتصادية تتيح تفسير اختيار الفرد لدراسة أو مهنة، على سبيل المثال الأجرة والانتماء السوسيو-اقتصادي. كما أن بعض المتغيرات الخاصة بالاقتصاد يمكن أن تحد من حرية الاختيار مثل النقص في الإعلام المتعلق بالمهن بالنظر إلى تعدد وتعقد هذه الأخيرة، وكذا التكلفة التي يقتضيها التكوين لممارسة بعض المهن(14).
وتندرج أيضا نظرية الاختيار الدراسي والمهني المستند إلى العوامل السوسيو-ثقافية ضمن الطرح الأول، لاسيما وأنها تؤكد على خضوع الاختيار للتأثيرات الثقافية والاجتماعية، إذ يسعى الفرد للبحث عن وضعيات دراسية أو تكوينية أو مهنية تتطابق وقيمه الأبوية والأسرية والجماعاتية المستبطنة(15)، كما تتأثر اختياراته بهذا الشأن بطبقته الاجتماعية حيث مستوى توقعات الفرد المنحدر من الشرائح الاجتماعية المحرومة لا تتناسب دائما ومستوى مطامحه، وذلك بفعل وعيه بالإكراهات التي تحول دون تحقيق أهدافه الدراسية والمهنية(16).
ب) ـ الطرح الثاني
الطرح الثاني للنظريات التي تتعاطى وإشكالات التوجيه المدرسي والمهني غني بمقاربات الاختيار، ويمكن إيجازها في ثلاث اتجاهات كبرى أهمها النمائية والسيكو ـ دينامية والمؤسسة على الحاجات، وسنكتفي بعرض نموذج من كل اتجاه.
ب) ـ 1 ـ نظرية كنزبيرك Ginzberg E, (c)
بنى كنزبيرك نظريته على مفهومي المرحلة والطور معتبرا بلوغ الاختيار المهني سيرورة تستلزم القرارات المترابطة وغير المتجزئة التي يتخذها الفرد مجتازا مراحل وأطوار الطفولة والمراهقة ومستحضرا في الحسبان مختلف العوامل لصياغة اختياره، ومتوجا إياه بإيجاد تسوية بين رغبته وواقعه(17).
وتتحدد هذه السيرورة في ثلاث مراحل، إذ تسود مرحلة الاختيارات الإيهامية فكرة المتعة حيث هي وحدها الضابطة لطموحات الأطفال، ومن ثمة تبدو الاختيارات المرصودة لديهم متسمة بالعظمة والمشهدانية والمغامرة. وهذه السمة تفسر على الأرجح من جهة، بسعي الأطفال إلى توسيع آفاقهم بفضل المطالعة والتجارب المعاشة، ومن جهة أخرى بمحاولاتهم الإفلات من القيود التي يشعرون بها على نحو متزايد، كما أنهم أكثر حرية لإطلاق العنان لمخيلاتهم لأن اصطلاح المستقبل في أذهانهم يعتريه الإبهام، وبعبارة أخرى فالأطفال عاجزون عن تكوين صورة موضوعية عن ذاواتهم(18).
وتتمفصل مرحلة الاختيارات الوسيطة على أطوار، كل طور تناظره عوامل مأخوذة بعين الاعتبار بدء بالاهتمامات، مرورا بالقدرات والقيم، وانتهاء بالطور الانتقالي حيث يزداد المراهقون واقعية ونفعية في طريقة التفكير مستثمرين بذلك البدائل المتنوعة المتاحة لهم. وتتميز هذه المرحلة ببحث الأفراد عن أسس داعمة لاختياراتهم المهنية وبتدرجهم في معرفة ذاواتهم والعوامل الخارجية (نقط القوة
والضعف بالنظر إلى مهنة ما). ويتجلى تدرجهم هذا في قدراتهم المتنامية في الوضع في الحسبان، من جهة الرغبات، ومن جهة أخرى الواقع، ففي سن 15 ـ 16 سنة يكون المراهق(ة) منشغلا بخلق مكانة له في المجتمع، بينما في سن 18 سنة، وعلى مشارف إنهاء الدراسات الثانوية، يلج الفرد الطور الانتقالي ويتعين عليه الفصل فيما يخص متابعة الدراسة أو ولوج الحياة العملية؛ وهكذا يزداد الفرد وعيا بالعديد من العناصر، منها الأنشطة المندرجة ضمن اهتماماته، وتلك المتوافقة مع مؤهلاته، وكذا الإكراهات الخارجية والامتيازات المنتظرة من اختياره(19).
وتؤشر المرحلة الواقعية على نهاية السيرورة، وتنقسم إلى ثلاثة أطوار، إذ يتسم طور الاستكشاف بربط الفرد للحاضر بالمستقبل وبكونه غير آمن إزاء اختياره مما ينمي لديه إرادة التخلص من حالة اللايقين والرغبة في تدقيق اختياراته، بالإضافة إلى إدراكه كل التغييرات الطارئة لديه، ومن ثمة الحاجة إلى تنويع انشغالاته المهنية لتعميق معرفته بعالم الشغل وبالتالي ضرورة الاستعلام عن منظومة التربية والتكوين والمهن وسوق العمل، كما يعيد النظر في قراراته السابقة غير العملية أو المكلفة وذلك بتقويم التعالق بين اهتماماته ومؤهلاته وقيمه والسعي إلى تسليط مزيد من الضوء على أهدافه. ويرتهن طور التبلور بجودة سابقه حيث يكسب الفرد القدرة على التموقع ضمن مهنة معينة، ويمتلك المهارة لتقييم العوامل المتدخلة في اختياراته وعلى رأسها حقيقة الزمن. أما طور التخصيص فإنه يتميز بكون الفرد يتسم بالقدرة على الثبات على اختياره وتدقيق أهدافه والقبول بمسؤوليات الشخص الراشد(20).
ب) ـ 2 ـ نمذجة هولاند J. L, Holland(d)
يعد هولاند من مبدعي مفهوم التوجيه المهني، فاختيار مهنة، حسب نظريته، يكمن في بحث الفرد عن بيئة تناسب شخصيته الخاصة والتي تسمح له بالتعبير عن اهتماماته وقيمه. وتتناول مقاربته لسلوك الميل المهني طريقة تفاعل الشخص مع بيئته، وتطور هذا الأخير الناجم عن نوعين من التأثيرات: الإراثة والمؤثرات الخارجية. فالشخصية هي ثمرة الموروث والمكتسب معا. والفرد ينزع على الدوام نحو البيئة القابلة لتلبية اختياره، حيث سيوظف مؤهلاته ويعبر عن مواقفه ويترجم قيمه ويضطلع بادوار مجزية، أي الشعور بالرضى عن قراراته والاستمتاع بنمط حياته.
ويصنف هولاند البيئة إلى ستة نماذج متحادية ومتتالية: الواقعية، البحثية، الفنية، الاجتماعية، المبادرتية، التعاقدية، ويرتب الشخصيات وفق تصنيف سداسي عماده التماس والتتابع الحلقي: الواقعي، الباحث، الفنان، الاجتماعي، المبادر، المتعاقد. ويرتبط توجيه الشخص بمستواه الذكائي وتقويمه الذاتي، بمعنى أن التوجيه الذاتي يمر عبر نماء تدريجي يحكمه التقدم في معرفة الذات والوجاهة في البحث عن المعلومة. وهكذا فهولاند يركز على الميولات الشخصية المعبر عنها من خلال الاختيار المهني، ويفسر السلوك المهني بالتفاعل الحاصل بين التوجيه الذاتي والبيئة المهنية(21).
ب) ـ 3 ـ نظرية أن رو A, Roe (e)
يعد مفهوم الحاجة العمود الفقري لنظرية أن رو وهو مستوحى من نظرية أبراهام ماسلو A, Maslow (f) الذي يموقع الحاجات بمستويات دنيا وأخرى عليا، ويرتبها بشكل هرمي وفق التصنيف التالي: الحاجات الفيزيولوجية من أكل وشرب ونوم وتنفس، حاجات الأمن والحماية للجسم والشغل والتملك، حاجات الانتماء والوجدان من حب وحميمية أسرية وجنس، حاجات التقدير والاستقلالية من اهتمام وثقة واحترام متبادل وتقدير شخصي، حاجات تحقيق الذات من تواصل وفهم وأخلاق وخلق وإبداع وحلول للمشاكل(22). وتقدمت رو بفرضيات تتناول وقع تلبية الحاجات من دونه على نماء، عبر تجارب الحياة، لسمات الشخصية (الميولات، الاهتمامات، الحوافز، المؤهلات، …)؛ فنمط تأتي الإرضاءات أو الإحباطات الأولى للحاجات النامية لدى الطفل يحدد اتجاهات تدفق طاقاته النفسية؛ وهذه الأخيرة هي المحددة للمؤهلات والاهتمامات التي ستوسم فيما بعد ميادين الأنشطة موضوع ميول الفرد؛ ودرجة التحفيز الذي تعكسه إنجازات الشخص متعالق وشدة وانتظام الحاجات لاسيما اللاواعية منها؛ والحاجات التي تلبى بمجرد ظهورها تصبح عوامل واعية للتحفيز؛ أما الحاجات من المستوى الأعلى أو الجوهرية والتي لا تتمتع بالاستجابة إلا نادرا فهي محكومة بالزوال، بل ستحول من ظهور حاجات أخرى من نفس المستوى والمعنية بالتحول لاحقا إلى عوامل التحفيز ذات التأثير المهيمن والمقيد؛ والحاجات المتأخرة أو التي يحتمل تلبيتها مستقبلا ستصير عوامل لاواعية للتحفيز بما يتناسب أساسا ودرجة التلبية المحققة، وسيعبر عن درجة الرضى والارتياح المحصل عليهما بدلالة شدة الحاجة والفترة الزمنية الفاصلة بين بروز الحاجة وتلبيتها، وستقاس أيضا بدلالة القيم المرتبطة بتلبية هذه الحاجة في المحيط المباشر.
ولقد ربطت رو بين تلبية الحاجات والمواقف والسلوكات الأبوية موجزة وضعيات الطفل إزاء أبويه في ثلاث: الطفل مركز الاهتمام، الطفل المتجاهل، الطفل المقبول. وهكذا فالطفل الذي يعيش في كنف أسرة تفرط في حمايته تشبع حاجاته الأساسية (الفيزيولوجية والأمنية)، لكن إرضاء حاجاته من الانتماء والحب وتقدير الذات يعتمد على مدى طاعته لأسرته. ووارد استفادة الطفل المتجاهل وجدانيا من طرف أبويه من السلامة البدنية، غير أنه يحرم من تلبية حاجاته العاطفية. أما الطفل المحتضن من طرف أسرته فيستجاب على العموم لكل حاجاته.
وفي ارتباط بالمواقف الأبوية لخصت رو ميولات الراشد في توجهين رئيسين: الميل نحو الأشخاص والميل نحو اللاأشخاص (الأشياء والمواضيع). فالأفراد الذين تمتعوا برعاية خاصة خلال طفولتهم، سينشئون على مواقف ووجهات نظر أشخاص محيطهم، وعلى ضرورة التموقع إزاء الآخرين وبالتالي تملك أسلوب الميل نحو الأشخاص؛ وتهيمن الحساسية إزاء الغير لدى أولئك الذين أهملوا وهم أطفال، وتتفاقم إلى درجة النزعة العدوانية، والتي تتحول أحيانا لتصرف بشكل مقبول اجتماعيا في انشغالات تعكس الميل نحو الأشخاص؛ أما الأفراد الذين حضوا بالحب طيلة طفولتهم فبإمكانهم الميل نحو الغير والمواضيع مع الأخذ بعين الاعتبار عوامل أخرى مؤثرة في ميولاتهم(23).
وتقدمت رو بعلاقات افتراضية بين التوجهات التي عرفتها آنفا وقطاعات الأنشطة، إذ ينم اختيار مهنة من قطاعات الخدمات والأعمال والمنظمات والثقافة والفن والفرجة عن الميل نحو الأشخاص، بينما يعكس التوجه إلى أنشطة مهنية في ميادين التكنولوجيا والعمل في الهواء الطلق والعلوم الميل نحو الأشياء(24).
يتبع…………………………………… الحلقة الثالثة
للاطلاع على كافة الحلقات المرجو النقر هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (a) فرانك بارسونز (1854- 1906) مفكر ومصلح اجتماعي أمريكي مارس المحاماة والهندسة واشتهر بالريادة في مجال حركة التوجيه
المهني.
(b) جون كرومبولتز عالم نفساني أمريكي من المدرسة السلوكية له مساهمات في علم النفس للشغل وفي التوجيه المهني.
(c) إلي كنزبرك أمريكي من عالم الاقتصاد درس الاختيار المهني لدى شباب الطبقات الاجتماعية الوسطى وخلص إلى نظرية مقاربة للاختيار
مؤسسة على السيرورة المهنية طيلة الحياة.
(d) جون لويس هولاند(1919-2008) عالم اجتماع أمريكي اشتهر بابتكاره لنموذج النماء المهني المؤسس على ست سمات للشخصية مناظرة
لست بيئات للشغل.
(e) أن رو(1904-1991) أمريكية أخصائية في علم النفس السريري كانت باحثة في عدة مجالات سيكولوجية من ضمنها الخلق والابتكار
والشغل وحاولت بناء تصنيف مهني مبني على الحاجات.
(f) أبرهام ماسلو(1908-1970) عالم نفساني أمريكي مشهور بتأسيسه للمقاربة الإنسانوية وباشتغاله على التحفيز على أرضية هرمية الحاجات
واعتمد الارتقاء بالمؤهلات والنجاحات لدى المرضى نهجا علاجيا.
(2) Le Petit Robert, 1996, dictionnaire de la langue française, Paris, p1548.
(3) عبد اللطيف الفاربي وآخرون، 1994، سلسلة علوم التربية 9-10، معجم علوم التربية والديداكتيك، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،
ص118.
(4) د أحمد أوزي، 2006، المعجم الموسوعي لعلوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص 118.
(5) Le Conseil de l’Europe, 2004, résolution relative au renforcement des politiques des systèmes et
des pratiques dans le domaine de l’orientation tout au long de la vie en Europe, Bruxelles, p2.
(6) Ordre des Conseillers d’Orientation du Québec, 2010, l’orientation d’hier et aujourd’hui,
http://www.orientation.qc/ordre/.
(7) UNESCO, 2002, orientation scolaire et professionnelle, Paris, p5.
(8) اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين، يناير 2000، الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص 44.
(9) Sharon Crozier et autres, 1998, exposé de principes de l’Association Canadienne de Counsoling
Universitaire et Collégial (ACCUC) sur l’orientation scolaire et professionnelle, Ottawa, p11.
(10) Idem, p14.
(11) Cegip St Clin de la Meute, initiation à la psychologie, l’approche humaniste,
http: //www.er.uqam.ac/.
(12) Idem.
(13) Danielle Riverin-Simard, développement vocationnel de l’adulte: vers un modèle en escalier,
revue des sciences de l’éducation, vol6, n°2 1980, p326.
(14) Benkeroume Mohmed, Avril 1987, courants de l’orientation scolaire et professionnelle, séminaire
organisé en collaboration avec l’ISESCO, COPE, Rabat.
(15) Jean Guichard et Michel Huteau, 2001, la psychologie de l’orientation, édition Dunod, Paris, p68.
(16) Benkeroume Mohmed, 1996, cours d’orientation scolaire et professionnelle, COPE, Rabat, p8.
(17) Dominique Gilles et autres, pour accompagner la réussite universitaire et professionnelle des
étudiants, revue Socrate le retour, édition de septembre 1994, Québec, p20.
(18) Idem, p21.
(19) Benkeroume Mohmed, 1996, cours d’orientation scolaire et professionnelle, COPE, Rabat, p11.
(20) http://.www.grafitexte.com/pdf/voc1/GINZBERGPDF; théorie du choix et développement
vocationnel.
(21) http://.www.dissertations gratuites.com.
(22) http://.www.wikipédia.org/pyramide-des-besoins-de-Masloـw.
(23) http://.www.grafitexte.com/pdf/voc1/Roetext.pdf.
(24) د أحمد أوزي، 2000، المراهق والعلاقات المدرسية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص147.
التدوينة سياقات ودواعي إعادة التوجيه|الحلقة الثانية|أنساق مفاهيمية للتوجيه التربوي ظهرت أولاً على توجيه بريس|.